سورة المائدة - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)}
ثم ذكر بعد ذلك وعيد الكفار فقال: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بئاياتنا أولئك أصحاب الجحيم}.
هذه الآية نص قاطع في أن الخلود ليس إلا للكفار، لأن قوله: {أولئك أصحاب الجحيم} يفيد الحصر، والمصاحبة تقتضي الملازمة كما يقال: أصحاب الصحراء، أي الملازمون لها.


{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
وقوله تعالى: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في سبب نزول هذه الآية وجهان:
الأول: أن المشركين في أول الأمر كانوا غالبين، والمسلمين كانوا مقهورين مغلوبين، ولقد كان المشركون أبداً يريدون إيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين، والله تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين فقال تعالى: {اذكروا نِعْمَت الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} وهو المشركون {أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بالقتل والنهب والنفي فكف الله تعالى بلطفه ورحمته أيدي الكفار عنكم أيها المسلمون، ومثل هذا الإنعام العظيم يوجب عليكم أن تتقوا معاصيه ومخالفته.
ثم قال تعالى: {واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} أي كونوا مواظبين على طاعة الله تعالى، ولا تخافوا أحداً في إقامة طاعات الله تعالى.
الوجه الثاني: أن هذه الآية نزلت في واقعة خاصة ثم فيه وجوه:
الأول: قال ابن عباس والكلبي ومقاتل: كان النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى بني عامر فقتلوا ببئر معونة إلا ثلاثة نفر: أحدهم عمرو بن أُمية الضمري، وانصرف هو وآخر معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليخبراه خبر القوم، فلقيا رجلين من بني سليم معهما أمان من النبي صلى الله عليه وسلم فقتلاهما ولم يعلما أن معهما أمانا، فجاء قومهما يطلبون الدية، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي حتى دخلوا على بني النضير، وقد كانوا عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رجل من أصحابي أصاب رجلين معهما أمان مني فلزمني ديتهما، فأريد أن تعينوني، فقالوا أجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم هموا بالفتك برسول الله وبأصحابه»، فنزل جبريل وأخبره بذلك، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحال مع أصحابه وخرجوا، فقال اليهود: إن قدورنا تغلي، فأعلمهم الرسول أنه قد نزل عليه الوحي بما عزموا عليه.
قال عطاء: توامروا على أن يطرحوا عليه رحاً أو حجراً، وقيل: بل ألقوا فأخذه جبريل عليه السلام، والثاني: قال آخرون: إن الرسول نزل منزلاً وتفرق الناس عنه، وعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة، فجاء إعرابي وسل سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من يمنعك مني؟ فقال لا أحد، ثم صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه فأخبرهم وأبى أن يعاقبه، وعلى هذين القولين فالمراد من قوله: {اذكروا نِعْمَت الله عَلَيْكُمْ} تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر والمكروه عن نبيّهم، فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن، والثالث: روي أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة وذلك بعسفان، فلما صلوا ندم المشركون وقالوا ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم، فقيل لهم: إن للمسلمين بعدها صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم، يعنون صلاة العصر، فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إليها، فنزل جبريل عليه السلام بصلاة الخوف.
المسألة الثانية: يقال: بسط إليه لسانه إذا شتمه، وبسط إليه يده إذا بطش به. ومعنى بسط اليد مده إلى المبطوش به، ألا ترى أن قولهم: فلان بسيط الباع ومديد الباع بمعنى واحد {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} أي منعها أن تصل إليكم.


{وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله ميثاق بَنِى إسراءيل وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثنى عَشَرَ نَقِيباً} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: اعلم أن في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوهاً: الأول: أنه تعالى خاطب المؤمنين فيما تقدم فقال: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وميثاقه الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ الله وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7] ثم ذكر الآن أنه أخذ الميثاق من بني إسرائيل لكنهم نقضوه وتركوا الوفاء به، فلا تكونوا أيها المؤمنون مثل أولئك اليهود في هذا الخلق الذميم لئلا تصيروا مثلهم فيما نزل بهم من اللعن والذلة والمسكنة، والثاني: أنه لما ذكر قوله: {اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] وقد ذكرنا في بعض الروايات أن هذه الآية نزلت في اليهود، وأنهم أرادوا إيقاع الشر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذكر الله تعالى ذلك أتبعه بذكر فضائحهم وبيان أنهم أبداً كانوا مواظبين على نقض العهود والمواثيق.
الثالث: أن الغرض من الآيات المتقدمة ترغيب المكلفين في قبول التكاليف وترك التمرد والعصيان، فذكر تعالى أنه كلف من كان قبل المسلمين كما كلفهم ليعلموا أن عادة الله في التكليف والالزام غير مخصوصة بهم، بل هي عادة جارية له مع جميع عباده.
المسألة الثانية: قال الزجاج: النقيب فعيل أصله من النقب وهو الثقب الواسع، يقال فلان نقيب القوم لأنه ينقب عن أحوالهم كما ينقب عن الأسرار ومنه المناقب وهي الفضائل لأنها لا تظهر إلا بالتنقيب عنها، ونقبت الحائط أي بلغت في النقب إلى آخره، ومنه النقبة من الحرب لأنه داء شديد الدخول، وذلك لأنه يطلي البعير بالهناء فيعجد طعم القطران في لحمه، والنقبة السراويل بغير رجلين لأنه قد بولغ في فتحها ونقبها، ويقال: كلب نقيب، وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرتفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف.
إذا عرفت هذا فنقول: النقيب فعيل، والفعيل يحتمل الفاعل والمفعول، فإن كان بمعنى الفاعل فهو الناقب عن أحوال القوم المفتش عنها، وقال أبو مسلم: النقيب هاهنا فعيل بمعنى مفعول يعني اختارهم على علم بهم، ونظيره أنه يقال للمضروب: ضريب، وللمقتول قتيل.
وقال الأصم: هم المنظور إليهم والمسند إليهم أمور القوم وتدبير مصالحهم.
المسألة الثالثة: أن بني إسرائيل كانوا اثنى عشر سبطاً، فاختار الله تعالى من كل سبط رجلاً يكون نقيباً لهم وحاكماً فيهم.
وقال مجاهد والكلبي والسدي: أن النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم، فنكثوا الميثاق إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، ويوشع بن نون من سبط إفراثيم ابن يوسف، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} [المائدة: 23] الآية.
قوله تعالى: {وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاً حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في الآية حذف، والتقدير: وقال الله لهم إني معكم، إلا أنه حذف ذلك لاتصال الكلام بذكرهم.
المسألة الثانية: قوله: {إِنّى مَعَكُمْ} خطاب لمن؟ فيه قولان: الأول: أنه خطاب للنقباء، أي وقال الله للنقباء إني معكم.
والثاني: أنه خطاب لكل بني إسرائيل، وكلاهما محتمل إلا أن الأول أولى. لأن الضمير يكون عائداً إلى أقرب المذكورات، وأقرب المذكور هنا النقباء والله أعلم.
المسألة الثالثة: أن الكلام قد تم عند قوله: {وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ} والمعنى إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم، فقوله: {إِنّى مَعَكُمْ} مقدمة معتبرة جداً في الترغيب والترهيب، ثم لما وضع الله تعالى هذه المقدمة الكلية ذكر بعدها جملة شرطية، والشرط فيها مركب من أمور خمسة، وهي قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكواة وَءامَنتُمْ بِرُسُلِى وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} والجزاء هو قوله: {لأُكَفّرَنَّ عَنْكُمْ سيئاتكم} وذلك إشارة إلى إزالة العقاب. وقوله: {ولأُدخلنكم جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار} وهو إشارة إلى إيصال الثواب، وفي الآية سؤالات:
السؤال الأول: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أنه مقدم عليها؟
والجواب: أن اليهود كانوا مقرين بأنه لابد في حصول النجاة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل، فذكر بعد إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة أنه لابد من الإيمان بجميع الرسل حتى يحصل المقصود، وإلا لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تأثير في حصول النجاة بدون الإيمان بجميع الرسل.
والسؤال الثاني: ما معنى التعزيز؟
الجواب: قال الزجاج: العزر في اللغة الرد، وتأويل عزرت فلاناً، أي فعلت به ما يرده عن القبيح ويزجره عنه، ولهذا قال الأكثرون: معنى قوله: {وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} أي نصرتموهم، وذلك لأن من نصر إنساناً فقد رد عنه أعداءه. قال: ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله: {وَتُعَزّرُوهُ وَتُوَقّرُوهُ} [الفتح: 9] تكراراً.
والسؤال الثالث: قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} دخل تحت إيتاء الزكاة، فما الفائدة في الإعادة؟
والجواب: المراد بإيتاء الزكاة الواجبات. وبهذا الاقراض الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيهاً على شرفها وعلو مرتبتها.
قال الفرّاء: ولو قال: وأقرضتم الله إقراضاً حسناً لكان صواباً أيضاً إلا أنه قد يقام الإسم مقام المصدر، ومثله قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] ولم يقل يتقبل، وقوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} ولم يقل إنباتاً.
ثم قال تعالى: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السبيل} أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم.
فإن قيل: من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضل سواء السبيل.
قلنا: أجل، ولكن الضلال بعده أظهر وأعظم لأن الكفر إنما عظم قبحه لعظم النعمة المكفورة، فإذا زادت النعمة زاد قبح الكفر وبلغ النهاية القصوى.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8